التفكير الذري ؟!
دكتور محمد محمد بدري
يسّر الله لي في السبعينات من القرن الفائت ، مطالعة كتاب الأستاذ مالك بن نبي " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة " .. ولأنه هزني بالفعل ، فقد أعدت قراءته أكثر من مرة .. وبعد أن استوعبت الفكرة ، بدأت صور الصراع تتوارد على ذهني ، سواء فيما أراه أو فيما أقرأه عمّا يجرى في الواقع .. ثم تبين لي أنه لكي يكون الإنسان قادراً علي استيعاب روح الزمان والمكان ، فإنه لا ينبغي أن يشغل نفسه بالأحداث الصغيرة الجارية إلا بالقدر الذي يؤثر علي فهمه لطبائع الأمور الكلية ، فيجمع عناصر القضية الأساسية في عملية ذهنية واحدة ، ويرتّب تفاصيلها في سياق واحد .
وأمّا أن نبقي ننظر إلي الأحداث الجارية بطريقة " ذريّة " تجعل التفكير عاجزاً عن ضم الأحداث في سياق واحد طبقاً لتسلسلها ، فإن هذا بلا شك يحطّم وحدة المشكلات العضوية ، ومن ثم نصبح عاجزين عن صياغة حكم صحيح علي ذلك الواقع ، لأن هذا الحكم لا بد له من قاعدة يُرجع إليها ، ومقياساً تقاس به الأمور! بينما " التفكير الذري " يدفع بالعقل للقفز من تفصيل إلى تفصيل بشكل مستقل عن الموقف الموضوعي الذي نعيشه ، ومن ثم يصبح كل حادث جزئي ليس إلا حبة تضاف إلى مسبحة أحلامنا !!
ولا شك أن السبب الرئيس لهذا " التفكير الذري " هو البعد عن عرائس الحكمة التي دونها علماء الأمة في كتبهم ، والتي توصلوا إليها باتخاذهم القرآن أنيساً وجليساً على مر الأيام والأعوام نظراً وعملاً، وباستعانتهم على ذلك بالإطلاع والإحاطة بكتب السنة ومعانيها ، وبالنظر في آراء السلف المتقدمين والالتزام بما كان عليه النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه .. تلك الأصول التي تُربى الفرد على طريقة التفكير العضوية ـ أو الكلية ـ التي تجمع بين الوقائع في تسلسل وسياق واحد حتي يمكن من خلالها استنباط القانون العام ـ أو المقياس ـ الذي تقاس به الحوادث الجزئية .
فالإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول :
" الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد ، حتى أفادت فيه القطع ، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق ، ولأجله أفاد التواتر القطع - وهذا نوع منه - ، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب - وهو شبيه بالتواتر المعنوي - بل هو كالعلم بشجاعة عليّ ـ رضي الله عنه ـ ، وجود حاتم الطائي المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما "
فهو ـ رحمه الله ـ يعرض كيفية اقتناص القطع من جملة أدلة ظنية ، فلم يفتقر في الحكم بشجاعة عليّ ـ رضي الله عنه ـ إلى دليل خاص يـقول بأن عليّ شجاع.. ولكن باستقراء حوادث كثيرة تتحدث عن مواقف شجاعة لعلي ـ رضي الله عنه ـ ... " فالعموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغة عموم فقط، بل له طريقة أخرى، وهي استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ "
فالشاطبي -رحمه الله- يصف هنا طريق الوصول إلى الأمر الكلي العام .. إلى القاعدة.. إلى المقياس.. عن طريق تصفح جزئيات المعنى .. ومن وصل إلى القاعدة الكلية استطاع أن ينّزل على مقتضاها كل الجزئيات التي قد تخالف بظاهرها هذه القاعدة .
ولقد عالج ابن تيمية ـ رحمه الله ـ مرض " الذريّة " في التفكير ؛ فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلي الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا ؟ وقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا ؟ فسمع رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فخرج فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان ، فقال : " أبهذا أمرتم ؟ أو بهذا بعثتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، إنما ضلت الأمم من قبلكم بمثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء ، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا ، والذي نهيتكم عنه فانتهوا "
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه " .. فالجمع بين أطراف الأدلة وعدم النظر إليها نظرة جزئية ذرية هو الطريقة الصحيحة في النظر .. وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين من الناس لو كان عندهم وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها وجمعوا أطرافها وجزئياتها فربما لم يكن للنقاش مبرر.
وما نقلناه عن عالمين من علماء الأمة ، وإن كان يعالج مرض الذريّة ، في جانبه النظري ، إلا أن العلم ـ كما يقول الشاطبي ـ إنما يراد لتقع الأعمال في الواقع على وِفْقه من غير تخلف ، سواء كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح " ؛ فكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه "
ولذلك ، فلا بد من إحكام الفهم لهذا الواقع من خلال التأمل في معطيات أحداثه والربط بينها بشكل ينظر إلي تلك الأحداث علي أنها كائنات حية تؤدي دورها من خلال علاقات عضوية تربط بينها ..
إن الإحساس بالواقع وحده لا يحصل منه وعي ، بل الذي يحصل هو الحس فقط ، و مهما تعدد نوع الإحساس ، إنّما يحصل منه إحساس فقط ، ولا يحصل وعي مطلقاً ، بل لا بد من وجود خبرة سابقة عند الإنسان يفسر بواسطتها الواقع الذي أحس به حتى يحصل فكر..ومن ثم وعي بهذا الواقع !!
فإذا أعطينا كتاباً باللغة الألمانية ـ مثلاً ـ لإنسان يفتقد أية خبرة بهذه اللغة ، وجعلنا حسه يقع على الكتابة، بالرؤية ، واللمس ؛ فإنه لا يمكن أن يعرف كلمة واحدة ، وإن تكرر هذا الحس مليون مرة ، حتى نعطيه خبرة عن اللغة الألمانية ، فحينئذ يبدأ في التفكير ، ومن ثم يعي المعاني ..
وإذا أتينا بطفل ليس لديه أية خبرة ، ووضعنا أمامه قطعة ذهب ، وقطعة نحاس ، وحجراً ، ثم جعلنا جميع إحساساته تشترك في حس هذه الأشياء ، فإنه لا يمكنه أن يدركها ، مهما تكررت هذه الإحساسات وتنوعت. ولكن إذا أُعطي معلومات وخبرة عنها وأحسها ؛ فإنه يستعمل خبرته لإدراك ما نعرضه عليه .. وهذا الطفل لو كبرت سنه وبلغ عشرين سنة ، ولم يأخذ أية معلومات وخبرة ، فإنه يبقى كأول يوم ، يحس بالأشياء فقط ولا يدركها أو يعيها ؛ لأن الذي يجعله يدرك هو الخبرة السابقة مع الواقع الذي يحسه ..
وإذا أتينا بطفل عمره خمس سنوات ، لم ير الأسد ولم يسمع به ، ولم ير الكلب ولم يسمع به، ولم ير الفيل ولم يسمع به ، وعرضنا عليه أسداً وكلباً وفيلاً ، أو عرضنا عليه صورة أسد وصورة كلب وصورة فيل ، ثم طلبنا منه أن يعرف أي واحد منها ، أو يعرف اسمه ، وما هو هذا الشيء ، فإنه لا يعرف شيئاً ، ولا يمكن أن توجد لديه أية عملية عقلية تجاه أي منها. ولو حفّظناه أسماءها بعيداً عنها دون أن تقترن بأي منها ، ثم عرضنا عليه هذه الأشياء ، وقلنا هذه أسماؤها ، أي الأسماء التي حفظتها هي أسماء هذه الأشياء ، فإنه لا يمكن أن يعرف اسم أي منها إلا إذا أعطيناه اسم كل منها تجاه واقعه ، أو تجاه صورة الواقع ، وربطناه بها ، حتى حفظ الأسماء مربوطاً كل اسم منها بواقعه ، فإنه حينئذ يدرك كل شيء باسمه ، أي يدرك ما هو هذا الشيء هل هو أسد أم فيل أم كلب ، ولا يخطئ.
فالموضوع إذن ليس متعلقاً بمجرد الحس بالواقع ، وإنّما هو متعلق بالمعلومات والخبرة السابقة عن هذا الواقع ، والتي هي الشرط الرئيس والأساس لوعي هذا الواقع ..
لقد أصبح أعداؤنا اليوم على درجة من الخبث لا يستهان بها ، ولذا فإن الإفلات من مصائدهم ، وكشف مخططاتهم يستلزم البصيرة والوعي ؛ لإدراك المؤامرة التي يديرونها .. وليس من سبيل إلي هذا الوعي وتلك البصير إلا بالبعد عن هذا العيب الخطير من عيوب التفكير ، والذي أطلقنا عليه " التفكير الذري " ..
No comments:
Post a Comment